اختراق الضمان الاجتماعي ليس خللا تقنيا... بل فشلا وزاريا يستوجب الاستقالة
في ركن من أركان هذا العصر الرقمي المتسارع، حيث يقاس
التقدم لا بعدد الطرق المعبدة ولا بالمآذن العالية، بل بقدرة المؤسسات على حماية البيانات كما تحمى الحدود، وقعت حادثة لا يمكن وصفها إلا بفضيحة سيبرانية وطنية. يختزل فيها كل التناقض الذي يميز الإدارة المغربية الحديثة، خطاب عن الرقمنة، وواقع من التهاون، وبنية تحتية معلوماتية هشة كبيوت العنكبوت.
تتمثل الواقعة في اختراق مزدوج لموقعين رسميين تابعين للدولة، الأول هو موقع وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولات الصغرى والتشغيل والكفاءات، والثاني هو موقع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المؤسسة التي تعد بموجب اختصاصها، حامية للطبقة العاملة، وركيزة للتماسك الاجتماعي، وضامنة لحقوق المؤمنين اجتماعيا. غير أن الحماية تحولت إلى ثغرة، والمؤتمن صار مكمن الخطر. فقد جرى تسريب معطيات شخصية ومهنية لأكثر من مليوني مغربي عامل في نحو نصف مليون مؤسسة. وشملت المعطيات المسربة، الأسماء الكاملة، أرقام بطاقات الهوية، الأرقام الهاتفية، الأجور، والبيانات البنكية. لم تكن الفضيحة ظرفا عارضا، بل واقعة تكشف هشاشة البنية المعلوماتية لمؤسسات الدولة في وقت تتكاثر فيه التهديدات.
المخترقون لم يكونوا سوى مجموعة تسمي نفسها جبروت، تنشط من دولة الجوار، الجزائر، الدولة ذاتها التي سبق لجنرالاتها أن أعلنوا حرب الجيل الخامس ضد المغرب. لم يقتصر تدخلهم على تشويه الواجهة الرقمية، بل ولجوا إلى الخزان الرقمي لمؤسسة رسمية، واستخرجوا منه ما شاءوا من بيانات، ثم عرضوها بوقاحة المنتصر في قنواتهم، كمن يعرض غنيمة بعد غارة، في استعراض أقرب إلى رسالة سياسية منه إلى قرصنة محضة. ما يزيد من حدة الواقعة أن خبيرا مغربيا في الأمن السيبراني سبق أن نبه الوزارة المعنية قبل أيام قليلة من الاختراق إلى وجود ثغرات واضحة في النظام المعلوماتي، وبين بدقة إمكان استغلالها للاختراق. غير أن التحذير لم يلق اهتماما، ولم تتخذ إجراءات وقائية، وهو ما يجعل المسؤولية مضاعفة.
أما الوزير المشرف على القطاع الذي طالته العملية السيبرانية، فقد صرح أن الموقع الذي تم استهدافه لا يحتوي على أي معطيات شخصية أو مهنية، وأنه ذو طابع إخباري محض، مما بدا محاولة إنكار فج تتعارض مع واقع انتشار المعطيات المسربة في فضاءات الويب، وتكشف عن ضعف فادح في تقدير حجم الضرر الذي تعرضت له الثقة الرقمية للمؤسسة. وتلاحقت بعد ذلك تصريحات رسمية اتسمت كلها بلغة الخشب. رئيس مجلس النواب دعا المغاربة إلى أخذ الحيطة والحذر من جهات معادية للوطن، دون أن يسميها، رغم أن الجميع قد سمع بتخطيط كابران الجزائر شنجريحة لإعلان حرب الجيل الخامس ضد المغرب، وهو ما تمت الإشارة إليه مرارا في تحليلات سابقة على هذه الصفحة. الناطق الرسمي باسم الحكومة صرح بدوره أن جهات معادية تقف وراء هذا الاعتداء، وتجنب أيضا أن يسمي الأمور بمسمياتها، واكتفى بتوصيف مبهم، بدل أن يقول صراحة إنه عدوان من سلسلة العدوان الجزائري المتواصل. وقد حول الوزير مسار النقاش من أصل الفضيحة إلى الجدل حول تشويه بعض المعطيات المتداولة، في محاولة لصرف الانتباه عن جوهر الاختراق. ثم جاءت محاولات التهوين من وقع الحادث على طريقة "إذا عمت هانت"، وأقحم الحديث عن الانتصارات الدبلوماسية للمغرب، وكأنها مبرر غير مباشر لما فعلته الجهات المعادية. وبدل الإقرار الصريح بتقصير الجهات المسؤولة عن حماية المعطيات، تم التأكيد أن جميع الاحتياطات كانت متخذة، وكأن التسريب لم يقع، أو أن ما حدث لا يعدو أن يكون سوء فهم رقمي عابر لا يستحق التوقف عنده.
تطرح علامات استفهام متزايدة حول ترتيب الأولويات في توزيع الميزانيات العمومية، لا سيما في ظل ما خصص لوزارة الانتقال الرقمي من اعتمادات مالية ضخمة على مدى السنوات الأخيرة. فقد رصدت للوزارة، التي أنيطت بوزيرة قيل إنها من العارفين بخبايا الذكاء الاصطناعي وأصول الحماية السيبرانية، ميزانيات استثمارية تقدر بمليارات الدراهم، يضاف إليها غلاف معتبر مخصص للمعدات ونفقات الموظفين، دون أن تنجح هذه التراكمات المالية في صد اختراق محدود، أو في تحصين موقع إلكتروني واحد من عبث الهاكرز. لكن، باستثناء مؤسسات سيادية قليلة، مثل المديرية العامة للأمن الوطني وإدارة الدفاع الوطني، تبقى الحماية السيبرانية في سائر الإدارات مجرد ترف تنظيمي يدرج في التقارير، دون أثر فعلي على أرض الواقع.
أما المأساة، فتتجلى في غياب المساءلة. لم يعزل أي مسؤول، ولم يقدم أي وزير استقالته، وكأن ما حدث شأن طارئ، لا يستوجب إلا بعض التغريدات التبريرية. في الدول التي تحترم نفسها، تقدم الاستقالات قبل نهاية الخبر العاجل. أما في النموذج المحلي، فالمعطيات تسرق، ولا أحد يحاسب. ويظل المواطن، في زحمة هذه السياسات الرخوة، ضحية مرتين، مرة لأنه طعن في خصوصيته، ومرة لأنه لن يجد من يحاسب الفاعلين. وكأن الدولة تقول له، حافظ على الهدوء، فالمعطيات المسروقة ليست سوى اسمك، ورقم بطاقتك، ورقم حسابك البنكي.
ختاما، تسجل هذه الحادثة ليس فقط كإخفاق أمني، بل كفشل في فهم روح العصر. فالدولة التي تبقي على وزراء يعجزون عن حماية موقع إلكتروني، لا يمكن لها أن تقنع أحدا بأنها جاهزة للتحول الرقمي. وما الاختراق إلا عرض لمرض أعمق، اسمه غياب الإرادة، وتخلي المسؤولين، واستسهال الإهانة السيادية.
✍️محمد العبوب
#الاختراق_السيبراني #الصندوق_الوطني_للضمان_الاجتماعي #وزارة_الشغل #جبروت #الهاكرز #المعطيات_الشخصية #الأمن_الرقمي #التحول_الرقمي #الثقة_الرقمية #الاختراق_الجزائري #الجيل_الخامس #الجزائر_تهدد #شنقريحة #الوزير_ينكر #المسؤولية_الغائبة #الفضيحة_السيبرانية #حرب_المعلومات #تسريب_البيانات #غياب_المحاسبة #فشل_رقمي #الدولة_الرقمية #المغرب
ليست هناك تعليقات