الراب والكلمة ... أجي نتناقشو اغنية عاش_الشعب نمودجا

منير الجوري:
أغنية #عاش_الشعب عرفت اهتماما واسعا ليس لأنها تنتمي إلى لون "الراب" أو لأن أذواق المتفاعلين معها تميل لهذا الأسلوب التعبيري، فهناك عشرات أغاني "الراب" لم تلق نفس المتابعة. إنما كان هذا الاهتمام بالنظر للجرأة غير المسبوقة لكلماتها. صحيح أن بعض الكلمات فيها إساءة غير مقبولة لا أخلاقيا ولا تدافعيا، لكن الأغلبية الساحقة ممن تفاعل مع هذه الأغنية لم يعر تلك الكلمات السيئة أهمية، فيما تم تناقل العبارات التي تؤطر علاقة المواطن بالحاكم أو التي تعبر عن معاناته الاجتماعية والحقوقية. وأعتقد أن هذا نضج من المتفاعلين يعكس قدرتهم على التمييز بين الصالح والطالح وعدم السقوط في الابتذال، وهو دليل آخر على أن ليس كل من تفاعل مع الأغنية قد وقّع على بياض لصالح لونها أو أصحابها أو كل كلماتها.
الأمر الثاني أن "الراب" هو أصلا أسلوب احتجاجي قائم أساسا على الكلمة. فقد خرج من وسط الأحياء الفقيرة للأمريكيين للتعبير عن استيائهم وغضبهم من الحياة السياسية والاجتماعية والعنصرية وغيرها. واستبطن أيضا تمردا على قواعد الفن التي يصعب اقتحامها بسهولة، فهو أسلوب يضع اللحن والموسيقى والأداء في مستوى ثانوي، فلا شيء يعلو على الكلمات التي تبنى على قافية معينة. ومع التطور الذي عرفه هذا اللون الموسيقي فقد فرض نفسه وانقسم إلى أكثر من عشرة أنواع، عندها بدأت مواضيعه تتنوع وإيقاعاته تختلف، إذ استعمله الإباحيون واللصوص والسياسيون والقوميون والمتدينون فالراب المسيحي مثلا هو الأكثر انتشارا من بين الفرق الغنائية المسيحية. تعددت إيقاعاته وتيمات كلماته، لكن ظلت سلطة الكلمة هي أهم ما يميزه.
الأمر الثالث حول نقاش الراب هل هو فن أم لا؟ لا أحد يستطيع أن يجزم أو يمتلك الحقيقة للحكم. أولا لأنه ليس هناك راب واحد ولكن "رابات" تتوزع حسب الإيقاعات والتيمات والمغنين، وليست كلها بديئة. ثانيا لأن الفن أذواق ومواقف ولكل واحد معاييره الخاصة المنطلقة من قناعاته وخلفياته وتربيته الاجتماعية لتحديد ذلك. ثالثا لأن الراب فرض ذاته وأصبح له متابعين من مختلف المشارب والقارات بالملايين. رابعا لأن تعريف الفن وتدقيق أدواره ووظائفه ومحدداته موضوع اختلف فيه الفلاسفة والجماليون والمفكرون والعلماء فأحرى أن يختلف فيه المستهلكون.
لكن حتى وإن سلمنا بأن الراب فن لكني أعتقد، عن قناعة شخصية، أنه ليس فنا راقيا، بالنظر للبساطة التي تعرفها ألحانه وإيقاعاته وطريقة أداء المغنيين. ولأن اعتماده على الكلمة بالدرجة الأولى غير كاف لإحداث ذلك الشعور الوجداني الجمالي لدى المستمع. وإني أرى أيضا أن تقويمه من منطلق وجود نوع منه يستعمل الكلام الإباحي الهابط، فيه الكثير من القفز على الحقيقة أو الجهل بها أو اعتماد الانطباع الشخصي المبني على المعرفة العامية لا أكثر.
بالعودة إلى #عاش_الشعب، إن مهاجمة هذه الأغنية أو المتفاعلين معها انطلاقا من حكم مسبق حول الراب وما اشتهر به من كلام هابط لدى بعض مغنيه، هو هروب عن النقاش الحقيقي الذي طرحته الكلمات بوضوح تام. وهو أولا نقاش سياسي صرف وثانيا اجتماعي خانق حد اليأس الذي يجعل شبابا يغنون وآخرون يتفاعلون في قضايا تدخل ضمن الطابوهات السياسية بوجه مكشوف. وواضح جدا أن هؤلاء الهاربين بالنقاش للحواشي بدل العمق يتخوفون من أن تشكل هذه الأغنية بداية لتيار جديد من الراب، ولهم في شعارات الألتراس #في_بلادي_ظلموني نموذجا حيث أسست هذه الأخيرة لموجة من الشعارات المماثلة.
وبالمقابل فإن التعاطي العاطفي مع أغنية #عاش_الشعب من طرف شباب ربما وجدوا فيها صوتهم المكتوم وكلماتهم المنسية، ينبغي ألا يتماهى فيه الإعجاب بالكلمة مع التسليم باللون الموسيقى. فإذا كانت سلطة الراب هي الكلمة، فإنها لا تخاطب في جزء كبير منها إلا الإدراك وأداء أدوار محددة منطلقها التعبير البسيط والسريع، لكن النفوس تحتاج إلى ما هو ابعد من ذلك في متطلباتها الفنية، تحتاج جمالا يغذيها ويسقي ذائقتها ويرقى بها إلى معاني السمو الفني، وأظن شخصيا، أن الراب لن يحقق ذلك.
#هذا_ما_كان